الاثنين 15 ديسمبر 2025 06:16 صباحاً صدر الصورة، Getty Images
قبل 6 دقيقة
في 15 ديسمبر/ كانون الأول من عام 1256، استولى هولاكو خان، قائد المغول، على المعقل الرئيسي للطائفة النزارية الإسماعيلية، التي عُرفت في بعض المصادر باسم "الحشاشين"، في قلعة آلموت شمالي فارس، فدمّر القلعة وقضى على وجودهم السياسي والعسكري في بلاد فارس.
ومنذ ذلك التاريخ، ارتبط اسم هذه الطائفة بسلسلة من الروايات التي جمعت بين الوقائع التاريخية والأساطير، وأثارت الذعر في المخيال الغربي لقرون.
وتقول دائرة المعارف البريطانية إن حاخاماً يهودياً من إسبانيا، هو بنيامين التطيلي، زار سوريا عام 1167 ضمن رحلة استغرقت 13 عاماً عبر الشرق الأوسط وآسيا، وتحدث عن هذه الطائفة التي أثارت الذعر في الغرب، واصفاً إياها بأنها تعيش في قلاع جبلية ويطيع أتباعها قائداً غامضاً يُعرف بلقب "شيخ الجبل".
وعلى مدى قرنين بعد ذلك، تناقل رحالة وصليبيون قصصاً مرعبة عن النزاريين، تصوّرهم كقتلة مدرَّبين منذ طفولتهم على الاغتيال والخداع، ومخلصين لقائدهم إلى حد الاستعداد للتضحية بحياتهم تنفيذاً لأوامره.
وروّجت تلك الروايات الأسطورية لفكرة أن تطرفهم ناتج عن تعاطي مخدر الحشيش، أو عن عمليات غسيل دماغ يُحتجز فيها المجندون داخل حدائق فردوسية مليئة بأطيب الطعام وأجمل النساء.
ومن كلمة "حشاشين" العربية اشتُقّت كلمة assassin في اللغات الأوروبية، بمعنى القاتل المحترف.
لكن الكتابات الإسماعيلية لا تشير إلى النزارية بهذا الاسم، إذ لم تكن تسمية "الحشاشين" منتشرة في العالم الإسلامي آنذاك.
الحسن الصباح
صدر الصورة، Getty Images
تقول دائرة المعارف البريطانية إن هذه الطائفة تنتمي إلى النزارية الإسماعيلية، المنشقة عن الإسماعيلية الفاطمية الشيعية، التي سيطرت على سلسلة من القلاع الجبلية في سوريا وإيران منذ القرن الحادي عشر، وحتى الغزو المغولي في القرن الثالث عشر.
وكان أتباعها قد استولوا، بزعامة حسن الصباح، على أولى قلاعهم، آلموت، في شمال إيران عام 1090، بعد انتزاعها من السلاجقة.
ويعود أصل الطائفة إلى الحركة النزارية الإسماعيلية التي انشقت عن الدولة الفاطمية عقب صراع على الخلافة بين نزار بن المستنصر بالله وأخيه المستعلي، إذ اعتبر أتباع نزار أنفسهم ممثلين للخط الشرعي للإمامة.
وفي هذا السياق ظهر الحسن الصباح، الذي درس في القاهرة وعاد إلى فارس حاملاً أفكار الدعوة الإسماعيلية، وبعد عودته بدأ يبني شبكته الدعوية بسرية شديدة، مستفيداً من الفوضى السياسية في الدولة السلجوقية.
وما لبث أن اتخذ من قلعة ألموت في جبال الديلم مركزاً لحركته بعد أن استولى عليها بخطة مدروسة وبدون قتال كبير، لتصبح مقراً رئيسياً للحركة ومنطلقاً لعملياتها اللاحقة، ومن مقرهم في ألموت تمكنت قوات النزاريين من السيطرة على عدد من القلاع الجبلية الأخرى، مشكّلين بذلك دولة نزارية صغيرة متقطعة جغرافياً.
وتميز الحسن الصباح بصرامة فكرية وحزم تنظيمي حيث فرض على أتباعه نمطاً من الطاعة المطلقة، وربط وجودهم بحياة الجماعة وبقضيتها العقائدية.
ونجح في تحويل قلاع الجبال إلى مراكز مغلقة أشبه بدول صغيرة مستقلة، كما اعتمد أسلوب التربية العقائدية المكثفة التي تستند إلى تفسير باطني للمعرفة الدينية، وقد منح هذا الأسلوب للحركة ثباتاً شديداً رغم الهجمات الخارجية، وجعل أفرادها شديدي الاستعداد لتقديم حياتهم في سبيل أهداف القيادة، وهذا ما دفع بعض المؤرخين الغربيين لاحقاً إلى وصف الحركة بأنها "مجتمع مغلق" يمتلك قدرة غير مسبوقة على إنتاج الولاء والاستعداد للموت.
وإلى جانب فارس ترسخ وجودهم في بلاد الشام أيضاً في قلاع مثل القدموس والكهف ومصياف، وكان زعيمهم الأبرز هناك راشد الدين سنان المعروف أيضاً بلقب "شيخ الجبل" الذي استطاع أن يدير الحركة في الشام باستقلال نسبي عن مركزها في قلعة ألموت، وتحول إلى شخصية محورية في تاريخهم، وقد قاد النزاريّين في الشام نحو 30 عاماً في ذروة قوتهم خلال أواخر القرن الثاني عشر.
وقد كتب المؤرخون الأوروبيون عن "شيخ الجبل" الذي يُزعم أنه كان يتحكم بأتباعه عبر وسائل غامضة، وقد انتشرت روايات تقول إن الفدائيين كانوا يخضعون لإيهام خاص يجعلهم مستعدين للموت، وربطت هذه الروايات بين اسمهم وكلمة "الحشيش" رغم عدم وجود دليل تاريخي قاطع يثبت ذلك، والأرجح أن أصل التسمية يعود إلى دعاية سياسية تستهدف تشويههم أكثر من كونها وصفاً واقعياً لسلوكهم أو معتقدهم.
وقد نسب إلى شيخ الجبل عدد من العمليات السياسية والعسكرية، كما ارتبط اسمه بأساطير متعددة روجها الصليبيون، ورغم المبالغات إلا أن وجوده كان مؤثراً في تحديد العلاقات بين الأمراء المحليين خلال تلك الحقبة.
الاغتيال السياسي
صدر الصورة، Getty Images
وبما أنّ النّزاريّين كانوا أضعف بكثير من خصومهم الرئيسيين من حيث القوّة العسكرية التقليدية، فقد اعتمدوا على حرب العصابات التي شملت التجسّس، والتسلل إلى أراضي العدو، والاغتيالات الموجّهة لقادة الخصوم.
وقد اشتهرت الطائفة باستخدام الاغتيال السياسي كوسيلة رئيسية لمواجهة خصومها، ولم تكن عملياتها اعتباطية، بل كانت موجهة نحو شخصيات محددة لها تأثير في موازين القوة الإقليمية.
وقد نفذت فرقة مميزة من أتباعهم عرفت باسم "الفدائيين" مهام الاغتيال بدقة، وكانت أولى العمليات البارزة اغتيال الوزير السلجوقي نظام الملك عام 1092، والذي اعتبرته الدعوة خطراً على وجودها، وقد تم اغتياله على يد مقاتل نزاري كان متنكرّاً في هيئة صوفي.
وتبع ذلك سلسلة من الاغتيالات التي طالت قادة سلجوقيين وأمراء محليين وحتى بعض الشخصيات الصليبية فقد اغتالوا الفارس الصليبي كونراد من مونتفرات قبل أيام من تتويجه ملكاً على مملكة القدس الصليبية عام 1192.
وازدادت شهرة النزاريين في التراث الأوروبي خلال الحروب الصليبية، حيث نقل الرحالة والفرسان قصصاً مبالغاً بها عن الطبيعة "السحرية" لولاء الفدائيين لقادتهم.
ولم تكن هذه العمليات فقط عملاً عسكرياً، بل كانت أيضاً رسالة سياسية هدفها إظهار قدرة الحركة على الوصول حتى إلى أكثر الشخصيات حماية.
ومع انتشار الحديث عن خطر النزاريّين غير المرئي، اضطر خصومهم إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات، منها السفر مع حرس خاص، وارتداء دروع خفيّة تحت الملابس.
وقد شكل النزاريون تحالفات عابرة للأديان والمذاهب عندما اقتضت الضرورة السياسية ذلك، فقد وجدوا مصلحة في بعض الأحيان بالتقارب مع القوى الصليبية للتصدي لخصوم مشتركين مثل السلاجقة أو الزنكيين.
كما حاولوا مرات أخرى استمالة السلطان صلاح الدين الأيوبي، إلا أن خلافاتهم معه وصلت حد محاولة اغتياله في أكثر من مناسبة، وقد رد عليهم صلاح الدين بحملات قاسية على مواقعهم في الشام، لكن طبيعة قلاعهم الجبلية وولاء أتباعهم جعلت من الصعب القضاء عليهم، وانتهى الأمر إلى تصالح صلاح الدين مع راشد الدين سنان حيث أمّن له الأول حكمه المحلي في جبال الشام بشرط عدم التعرض للأيوبيين.
النهاية والإرث
صدر الصورة، Getty Images
ثم جاء التحدي الأعظم مع صعود المغول بقيادة هولاكو خان في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، فبعدما اجتاح المغول بلاد فارس والعراق، وجهوا حملاتهم نحو قلاع النزاريين.
ورغم شجاعتهم في الدفاع عن قلعة ألموت وغيرها من المواقع، لم تستطع الطائفة الوقوف طويلاً أمام المد المغولي، وانتهى الأمر بسقوط قلعة ألموت سنة 1256، ثم تدمير الكثير من قلاعهم الأخرى.
أما وجودهم في بلاد الشام فاستمر لفترة أطول رغم هجمات المغول والصليبيين، لكن مع سيطرة المماليك بقيادة الظاهر بيبرس، بدأت نهاية الحضور المنظم للنزاريين في الشام، حيث قام بيبرس بحملة منظمة للسيطرة على قلاعهم، ونجح بالتدريج في تحجيم نفوذهم وإنهاء قدرتهم على شن عمليات اغتيال كالسابق.
ومع مرور الزمن اختفى التنظيم القديم تماماً، بينما اندمج أتباعه في المجتمعات المحلية أو انضموا إلى التيارات الإسماعيلية الأخرى.
ورغم اختفاء التنظيم السياسي، إلا أن إرث النزاريين بقي في الذاكرة الثقافية عبر الروايات والأساطير الأوروبية والعربية، ولعل أهم أسباب استمرار هذا الإرث هو طابعهم السري وقدرتهم على التأثير السياسي رغم قلة عددهم.
كما أن روايات الرحالة الأوروبيين في القرون الوسطى رسمت صورة درامية عن الطائفة حيث وصفها البعض بأنها أشبه بفرقة من القتلة الأسطوريين، وفي الأدب الغربي تمت استعادة صورتهم في القرنين التاسع عشر والعشرين، ثم تحولت كلمة الحشاشين Assassin في اللغات الحديثة إلى مرادف للقاتل المحترف، وهو انعكاس مباشر لتأثير الرواية التاريخية عن النزاريين.
وقد دفعت صورة النزاريين في التراث الغربي بعض الباحثين إلى دراسة علاقتهم بتطور مفهوم الاغتيال السياسي في التاريخ، إذ يعتبر بعض المؤرخين أنهم أول جماعة استخدمت الاغتيال كأداة منظمة ضمن استراتيجية دفاعية واضحة.
ولكن ساهمت الدراسات الحديثة في تفكيك كثير من الأساطير المرتبطة بهم، فقد تبين أن الطائفة كانت منظمة سياسية عقائدية معقدة وليست مجرد جماعة عنيفة، كما أن دوافعها كانت مرتبطة بصراع على الشرعية الدينية والسياسية أكثر من ارتباطها بمفاهيم الغموض أو "السحر".
وتظهر الوثائق الإسماعيلية أن الحركة امتلكت جهازاً فكرياً متكاملاً قائماً على التأويل الباطني، وتقاليد تعليمية محكمة، والاغتيالات التي اشتهروا بها لم تكن سوى جزءاً محدوداً من استراتيجية أوسع تهدف إلى حماية وجودهم في وجه قوى تفوقهم عدداً وموارد.
صدر الصورة، Getty Images
وأكدت دائرة المعارف البريطانية أن أغلب القصص التي وردت أوروبا عنهم لم تكن دقيقة، فمصدرها اثنان من ألد أعدائهم وهما المسلمون السنة والصليبيون، كما أن المصادر الإسماعيلية لم تؤيد قصة "الحشيش" هذه، كما أشارت بريتانيكا إلى أن الاغتيال السياسي في الشرق الأوسط لم يقتصر حينئذ عليهم فقط، فقد مارسه الصليبيون والسنة أيضاً.
كما أن دراسة طائفة النزاريين تكشف أيضاً جوانب اجتماعية مثيرة للاهتمام، فقد شكلت الطائفة مجتمعاً بديلاً اعتمد على مفهوم الإمام الغائب والتأويل الباطني، مما منح أفرادها شعوراً بالتمايز عن محيطهم.
لقد كانوا جزءاً من التطور السياسي والفكري للعالم الإسلامي في مرحلة شديدة التعقيد، وكان تأثيرهم أكبر من مجرد عمليات اغتيال، بل شمل محاولات للتأسيس لنظام عقائدي مستقل ولحضور سياسي مضاد للهيمنة السلجوقية والعباسية.
وفي تقييم مكانتهم في التاريخ، يمكن القول إنهم كانوا ظاهرة نتجت عن الصراعات الداخلية في العالم الإسلامي، وعن الانقسامات داخل الدعوة الإسماعيلية ذاتها.
لكن الرسالة التي بقيت من وجودهم هي قدرة الجماعات الصغيرة، حين تمتلك تنظيماً محكماً وعقيدة صلبة،على التأثير في سياق سياسي واسع، كما أن تاريخهم يكشف عن هشاشة الأنظمة الكبرى عندما تواجه خصماً يجيد العمل في الظل. وعلى الرغم من محاولة المؤرخين وضع الطائفة في إطارها الواقعي، إلا أنها تبقى رمزاً للغموض والقوة المستترة، وحاضرة بقوة في الذاكرة الشعبية وفي الأعمال الثقافية الحديثة.
وبعد العصور الوسطى استمرت أساطير "الحشاشين" في أوروبا، حيث كانت الحكايات المثيرة والمشوّقة عن الشرق الأوسط تحظى دائماً بشعبية، وما زالت تظهر أحيانا في الثقافة الشعبية الغربية عبر الروايات والأعمال السينمائية والألعاب الإلكترونية، ومثال بارز هو سلسلة ألعاب الفيديو Assassin's Creed التي تتضمن تنظيماً من القتلة المتخفيّن ذوي القدرات الرياضية الخارقة الذين يتسلقون الجدران ويقفزون بين أسطح المباني لملاحقة أعدائهم.
تم ادراج الخبر والعهده على المصدر، الرجاء الكتابة الينا لاي توضبح - برجاء اخبارنا بريديا عن خروقات لحقوق النشر للغير


