الاثنين 29 ديسمبر 2025 05:28 مساءً في خضم التحديث المتسارع الذي يشهده العالم العربي، تبرز إشكالية العلاقة بين التنمية والهوية. إذ كثيرًا ما يُقدَّم التراث وكأنه عبء ثقيل يعيق مسيرة التقدم، أو يُختزل في صور فولكلورية تُعرض على الهامش. غير أن هذا التصور ينم عن قصور في فهم جوهر التنمية ذاتها، التي لا يمكن أن تثمر في بيئة منبتَّة عن جذورها.
التراث ليس بذخا ثقافيًا، ولا مجرد ماضٍ يُروى، بل هو الذاكرة الحية التي تحفظ تماسك المجتمعات وتشكِّل ضميرها الجمعي.
لقد أثبتت التجارب أن التنمية التي تتجاهل الثقافة تنتج مجتمعات بلا انتماء، تفقد بوصلتها الأخلاقية، وتغدو أكثر قابلية للانقسام أو الاختراق. ومن هنا، فإن الحفاظ على التراث ليس معارضة للتطور، بل هو شرط له، لأن الإنسان المتوازن هو من يعرف ذاته وتاريخه، ويملك القدرة على صناعة مستقبله دون أن يتنكر لماضيه. في هذا السياق، تبرز تجارب عربية واعية، لعل من أبرزها التجربة القطرية التي جعلت من التراث محورًا من محاور رؤيتها التنموية. ويُعد المتحف الوطني نموذجًا لدمج الأصالة بالحداثة، ليس فقط في هندسته المستوحاة من وردة الصحراء، بل أيضًا في مضمونه الذي يروي تاريخ الإنسان في قطر، وارتباطه بالأرض، والبحر، والقيم المتوارثة.
مثل هذه المؤسسات لا تكتفي بعرض الذاكرة، بل تبعث فيها الحياة، وتربط الناشئة بجذورهم، وتزرع فيهم الشعور بالمسؤولية والانتماء. إنها فضاءات لصياغة وعي جديد، يُدرك أن الهوية ليست قيدًا، بل قوة ناعمة تدفع الإنسان إلى التميّز دون ذوبان.
اللغة، والعادات، وحتى الذوق الفني، باتت تحت ضغط التماهي مع «المثال العالمي»، وهو ما قد يُفضي تدريجيًا إلى طمس الفوارق الثقافية، لا سيما لدى الأجيال الجديدة. ولذلك، فإن مواجهة هذا التحدي لا تكون بالانغلاق، بل بتقوية الداخل الثقافي، ودمج الهوية في منتجات الإعلام الرقمي والتعليم المعاصر، بما يحفظ التوازن بين الانفتاح والخصوصية.
لكي يُثمر هذا الوعي، لا بد من تكامل السياسات التعليمية والثقافية. فالتعليم الذي يهمل الثقافة المحلية ويغرق في مناهج معولَمة، يزرع الفراغ في نفوس النشء. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى تجديد المناهج لتجعل من التراث جزءًا من تكوين الإنسان، لا مادة ثانوية.
كما أن دعم المؤسسات الثقافية، وتفعيل دور المجتمع المدني في حماية الموروث، يُعدان شرطين أساسيين لجعل الهوية رافعة للتنمية. ذلك أن المشاريع التنموية التي لا تستند إلى الإنسان، تظل مشاريع إسمنت وحديد، لا تصنع مجتمعًا متماسكًا، ولا تصون استقراره.
إن التنمية لا تكون شاملة ولا عادلة ما لم تبدأ من الإنسان وتعود إليه. والإنسان بلا هوية، هو مشروع هشّ، لا يصمد في وجه التحديات. ومن هنا، فإن الاستثمار في التراث ليس مجاملة للماضي، بل رهان على المستقبل.
فمن يربط أبناءه بذاكرتهم، إنما يؤسِّس لمجتمع متجذر، وواعٍ، وقادر على التقدم دون أن يضيع. ومن هنا، فإن طريق التنمية الحقيقية لا يمرّ فقط عبر الأبراج العالية، بل يبدأ من داخل الإنسان... من حيث يسكن تاريخه وهويته.
تم ادراج الخبر والعهده على المصدر، الرجاء الكتابة الينا لاي توضبح - برجاء اخبارنا بريديا عن خروقات لحقوق النشر للغير




