اخبار العرب -كندا 24: الخميس 11 ديسمبر 2025 12:39 مساءً هذا المقال بقلم الدبلوماسي التركي إردام أوزان، سفير أنقرة السابق لدى الأردن، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
تُخاض الحروب بالتعريفات الجمركية، وخطوط الأنابيب، والعقوبات، والخوارزميات. لقد برز الاقتصاد السياسي من الظل. ما كان في السابق تقنيًا بحتًا أصبح الآن مسألة بقاء.
لا تدور النزاعات التجارية حول الرسوم الجمركية الهامشية، بل حول السيطرة على سلاسل التوريد. ففي عام 2025، رفعت واشنطن الرسوم الجمركية على النحاس بنسبة 50٪. وردّت بكين بفرض قيود على الغاليوم والأنتيمون. وهما ليسا معدنين نادرين، بل هما أساس أشباه الموصلات والبطاريات والذكاء الاصطناعي. لم يُخض هذا الصراع في بحر الصين الجنوبي، بل داخل دوائر الرقائق الإلكترونية. ساحة المعركة ليست الصحراء، بل قواعد البيانات. وليست الدبابة، بل الرسوم الجمركية.
تهدف العقوبات إلى العزل، لكنها في النهاية تُضاعف البدائل. سارعت روسيا بتدشين "نظام تحول الرسائل المالية" SPFS(البديل الروسي لسويفت)، ووسّعت الصين نطاق "نظام الدفع بين البنوك عبر الحدود" CIPS.
كلما زاد استخدام التمويل كسلاح، ظهرت أنظمة موازية أكثر. المفارقة صارخة: العزلة تُؤدي إلى التكامل في أماكن أخرى.
يروي قطاع الطاقة القصة نفسها. فبعد أزمة خطوط الأنابيب الروسية، تحول الغاز بسبب تنافس أوروبا المحموم على الغاز الطبيعي المسال، من مجرد "وقود انتقالي" إلى شريان حياة حيوي. وارتفع الطلب في آسيا بشكل كبير. وسرّعت الصين وتيرة توسعها النووي، معتمدة على المفاعلات المعيارية الصغيرة. وأصبحت خطوط الأنابيب والمحطات بمثابة معاهدات. ومع مرور الوقت، تتلاشى المعاهدات، وتبقى خطوط الأنابيب.
قد يهمك أيضاً
دخل المناخ ساحة المعركة. يغطي تسعير الكربون ربع الانبعاثات العالمية، ومع ذلك، فإن جزءًا ضئيلًا فقط منه يُسعّر بسعر مرتفع بما يكفي لإحداث فرق. فرضت المملكة المتحدة ضرائب على السيارات الكهربائية، بينما سعت البرازيل، التي استضافت مؤتمر الأطراف الثلاثين (COP30)، إلى خفض الانبعاثات بشكل أكبر. أصبحت الأدوات المالية أدوات لإضفاء الشرعية. قد تُخاض المعركة القادمة من أجل المصداقية في أسواق الكربون، لا في ساحات المعارك. توحد سياسات المناخ وتفرق في آنٍ واحد: فهي توحد الدول حول أهداف مشتركة، لكنها تفرقها حول التكاليف والمسؤوليات والجداول الزمنية. الدول التي تفشل في إدارة التحولات المناخية تخاطر بفقدان مصداقيتها بشكل أسرع من فقدانها بسبب الهزيمة العسكرية.
إنّ التدفقات، لا الأعلام، هي التي تحدد القوة. تدفقات الطاقة. تدفقات البيانات. تدفقات رأس المال. هذه هي شرايين الشرعية. وعندما تُسدّ، تنزف الدول.
تحالفات النمولكن هذه التدفقات لا تعمل بشكل مستقل، بل تدعمها تحالفات تضم وزارات المالية والبنوك المركزية، وأجهزة الأمن وهيئات الدفاع، وجماعات الضغط الصناعية ومنصات التكنولوجيا. وتتولى هذه المجموعات تحديد المسارات التي يجب تطويرها، والمعايير التي يجب اتباعها، وتحالفات الذكاء الاصطناعي التي يجب تشكيلها، مثل اتفاقيات السلامة في واشنطن، ومبادرة الحرير الرقمي في بكين، وأطر الحد من المخاطر في بروكسل.
في دول متوسطة القوة كتركيا، غالباً ما تنظر المصالح الصناعية الراسخة إلى قواعد الذكاء الاصطناعي، وحوكمة البيانات، وأمن الاتصالات على أنها تكاليف. في المقابل، تنظر دوائر التكنولوجيا والأمن إليها كأدوات للحفاظ على المكانة والبقاء. ومن يقود هذه التحالفات، ومدى قدرة الدولة على تنظيمها وتنسيقها، هو ما يحدد ما إذا كانت التكنولوجيا ورأس المال الأجنبيان سيؤديان إلى تنمية حقيقية وسيادة، أم سيؤسسان تبعيات جديدة ضمن البنية التحتية للدولة.
التوقعاتتتفكك العولمة، وتظهر تكتلات جديدة. تبني الولايات المتحدة وحلفاؤها سلاسل إمداد آمنة لأشباه الموصلات والمعادن النادرة والطاقة. وتنشئ الصين ممرات موازية، من مبادرة الحزام والطريق إلى المنصات الرقمية. وتتجه روسيا شرقًا، عارضةً الطاقة بأسعار مخفضة. أما الشرق الأوسط، فيتخذ موقفًا احترازيًا، محققًا توازنًا بين المشترين والموردين.
التفكك ليس منظما. إنه متداخل وفوضوي وغير مستقر. تتبادل الدول التجارة عبر التكتلات حتى وهي تبني الجدران. تتجاوز الشركات الانقسامات، وتتفاوض مباشرة مع الدول. تعمل التدفقات الاقتصادية كجسور وأسلحة في آن واحد.
العملة تعني القوة. لا يزال الدولار متصدرًا، لكن هيمنته تتلاشى. الصين تُعزز تسويات اليوان في تجارة الطاقة. روسيا تختبر الروبل الرقمي. البنوك المركزية تُجري أبحاثًا حول العملات الرقمية. الصراع لا يقتصر على القيمة فحسب، بل يتعلق بالبنية التحتية أيضاً. أنظمة الدفع، وغرف المقاصة، والسجلات الرقمية هي ساحات المعركة الجديدة.
لا تزال المفارقة قائمة: كلما زاد استخدام الدول للتمويل كسلاح، تسارعت وتيرة تطوير البدائل. أدت العقوبات التي استهدفت عزل روسيا إلى تكثيف الجهود لبناء "نظام تحول الرسائل المالية" SPFS. كما دفع الضغط الأمريكي على شركات التكنولوجيا الصينية بكين إلى تسريع وتيرة إنشاء "نظام الدفع بين البنوك عبر الحدود". إن استخدام التمويل كسلاح يُؤدي إلى التشرذم.
قد يهمك أيضاً
يُعدّ المناخ معيارًا أساسيًا للشرعية. تُقيّم الدول بناء على سياساتها المناخية بقدر ما تُقيّم بناء على تحالفاتها. وتُحدد ضرائب الكربون على الحدود، والإعانات البيئية، والنزعة القومية للموارد، مصداقية الدول. إن دبلوماسية البرازيل في مؤتمر الأطراف الثلاثين (COP30) ليست بيئية فحسب، بل هي جيوسياسية أيضًا. كما أن آلية تعديل الكربون على الحدود في الاتحاد الأوروبي ليست مجرد إجراء مالي، بل هي استراتيجية.
تتصرف الشركات وكأنها كيانات سيادية. تتفاوض شركات التكنولوجيا مباشرة مع الحكومات. تُحدد شركات الطاقة العملاقة مسارات الإمداد. تُقرر المنصات المالية من يحق له التداول. يتلاشى الخط الفاصل بين الدولة والشركات. السيادة في طريقها إلى الخصخصة.
المخاطرالمخاطر واضحة. قد تأتي الأدوات الاقتصادية بنتائج عكسية. العقوبات تُزعزع استقرار الحلفاء كما تُزعزع استقرار الخصوم. الرسوم الجمركية ترفع التكاليف على المستهلكين. سياسات المناخ تُعمّق الفجوة بين الدول الغنية بالثروات والدول الفقيرة. ومع ذلك، فإن هذا المسار لا مفر منه. لقد ارتقى الاقتصاد السياسي إلى مستوى جديد. لم يعد مجرد خلفية، بل أصبح هو الأساس.
الخلاصةالنتيجة حتمية. سيُكتب مستقبل الجغرافيا السياسية لا بالمعاهدات، بل بالتعريفات الجمركية وخطوط الأنابيب والخوارزميات. إن تجاهل الاقتصاد السياسي يعني تجاهل ساحة المعركة القائمة تحت أقدامنا، معركة تُخاض بلا رايات، لكن عواقبها وخيمة كالحرب.
* نبذة عن الكاتب:
إردام أوزان دبلوماسي تركي متمرس يتمتع بخبرة 27 عامًا في الخدمة الدبلوماسية. وقد شغل العديد من المناصب البارزة، بما في ذلك منصبه الأخير كسفير لدى الأردن، بالإضافة إلى مناصب في الإمارات العربية المتحدة والنمسا وفرنسا ونيجيريا.
ولد في إزمير عام 1975، وتخرج بمرتبة الشرف من كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة. واكتسب معرفة واسعة بالمشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الشرق الأوسط، حيث قام بتحليل تعقيدات الصراعين السوري والفلسطيني، بما في ذلك جوانبهما الإنسانية وتداعياتهما الجيوسياسية.
كما شارك في العمليات الدبلوماسية المتعددة الأطراف، وتخصص في مجال حقوق الإنسان والتطورات السياسية الإقليمية. وتشمل مساهماته توصيات لتعزيز السلام والاستقرار من خلال الحوار والتفاوض بالتعاون مع المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية. ويواصل حاليا دراساته عن الشرق الأوسط بينما يعمل مستشارا.
تم ادراج الخبر والعهده على المصدر، الرجاء الكتابة الينا لاي توضبح - برجاء اخبارنا بريديا عن خروقات لحقوق النشر للغير



