اخبار العرب -كندا 24: الأربعاء 10 ديسمبر 2025 04:27 مساءً عاد نيكولا ساركوزي إلى صدارة المشهد الفرنسي بقوة غير متوقعة مع صدور كتابه الجديد «يوميات سجين»، الذي يسرد فيه تفاصيل واحد وعشرين يوماً أمضاها داخل سجن لا سانتي. وفي أول ظهور علني له بعد نشر كتابه، احتشد المئات من معجبيه في إحدى مكتبات باريس الكبرى، حيث وقّع نسخ الكتاب بابتسامة امتزج فيها شيء من الاعتزاز بشيء من التأثر. كان واضحاً أن الرجل الذي عاش ثلاثة أسابيع خلف الجدران، يخرج اليوم ليلتقي جمهوراً لم يبتعد عنه رغم كل العواصف القضائية والسياسية التي مر بها.
يستعيد ساركوزي في الكتاب اللحظة الأولى التي أُغلق فيها باب الزنزانة خلفه. كانت الغرفة الضيقة، ذات الألوان الرمادية المتراكمة، بمثابة عالم يبتلع كل ما حمله معه من ماضي السلطة والأضواء. السرير المعدني والطاولة الخشبية البسيطة والجدران الباردة بدت كأنها تحاصر روحه قبل جسده، وتجرده من الهيبة التي التصقت به طوال عقود. كان عليه أن يواجه حقيقة لم يتوقعها قط: أن الرجل الذي حكم فرنسا يوماً، أصبح الآن سجيناً في اثني عشر متراً مربعاً لا يكاد يتنفس فيها.
في هذا الفراغ القاتل، وجد ساركوزي نفسه يلجأ إلى الإيمان، يركع للصلاة كما لو أن السجود كان الطريق الوحيد للحفاظ على تماسكه. ويعترف بأن لقاءاته مع قسّ السجن كانت متنفساً يمنحه شيئاً من السكينة وسط بحر من القلق. أما الزيارات العائلية، فكانت أشبه بجرعة حياة يعود بها إلى نفسه، خصوصاً حين كانت زوجته كارلا بروني وابنه جان يزورانه. يقول إن تلك اللحظات أعادته من حافة الانهيار.
لم تكن الأيام داخل السجن متشابهة. بعضها كان يمر ببطء خانق، وبعضها يتسم بمفاجآت غير متوقعة، مثل اليوم الذي أخبرته فيه مديرة شابة بأن نائبين من حزب «فرنسا الأبية» يتجولان في السجن برفقة صحافي ومصور. فهم على الفور أن وجودهم لم يكن لغاية إنسانية، بل كان خطوة سياسية هدفها التقاط صورة له أو إثارة الجدل حول ظروف احتجازه. آثر البقاء في زنزانته احتراماً لكرامته، رافضاً المساهمة في مشهد أراد البعض تحويله إلى مادة إعلامية. ويصرّ في كتابه على أن زنزانته لم تكن تحظى بأي امتياز، بل كانت أبوابها مغلقة دائماً، على عكس بعض السجناء الآخرين.
علاقته بماكرونولم تكن علاقته بالرئيس إيمانويل ماكرون بعيدة عن هذا السرد. يكتب بصراحة أن الصمت الذي واجهه من الإليزيه كان علامة على توتر عميق، وأن غياب أي تواصل من ماكرون خلال تلك الفترة شكّل له خيبة شخصية أكثر مما شكّل له خيبة سياسية. وفي المقابل، تلقّى دعماً مفاجئاً من مارين لوبان وشخصيات من اليمين المتطرف، وهو ما شكّل مفارقة سياسية لافتة لم يتردد في ذكرها، لأنها – كما يقول – جزء من الحقيقة التي تعرّت له خلال تلك التجربة.
دعم غير متوقّع... مارين لوبان وأصوات من اليمين المتطرفومع أن علاقته بماكرون اتسمت بالبرود الذي ازداد خلال محنته، فإن المفاجأة جاءت من جهة لم يكن يتوقعها. ففي واحدة من أكثر لحظات الكتاب إثارة للجدل، يكشف ساركوزي عن اتصالات دعم وصلته من مارين لوبان وقياديين في حزب التجمع الوطني. لم يخفِ أنه فوجئ بتعاطف اليمين المتطرف معه، وأن هذا الدعم غير المتوقع أعاد إلى ذهنه أسئلة أعمق حول مستقبل اليمين الفرنسي وتحوّلاته. لقد فتح هذا الاعتراف باباً واسعاً للنقاش، فعدّ البعض أن ساركوزي يعيد رسم موقعه داخل الخريطة السياسية، بينما رأى آخرون أنه يلمّح إلى قناعة جديدة بضرورة إعادة التفكير في حدود التحالفات بين يمين الوسط واليمين القومي. كان لهذا المقطع وقع الصدمة في أوساط الجمهوريين، لأنّه يكشف عن مستويات من إعادة التموضع السياسي لم تكن مطروحة بهذه الجرأة من قبل.
الملك محمد السادس... مكالمة تهزّ القلبولا يكتمل السرد دون الإشارة إلى واحدة من أكثر اللحظات إنسانية التي تضمنها الكتاب، وهي الاتصال الذي تلقّاه من الملك محمد السادس. يروي ساركوزي أن العاهل المغربي كان من أوائل من هاتفوه قبل سجنه وبعده، وأن صوته كان يحمل تأثراً حقيقياً وهو يتحدث عن محنته. يقول إنه شعر بصدق عاطفي لا يصدر إلا عن قلوب كبار القادة، وإن العلاقة التي تربطه بملك المغرب علاقة تقدير متبادل لم تتأثر بتبدل المناصب ولا بالأزمات.
وعلى امتداد الصفحات، يؤكد ساركوزي أن ما عاشه في السجن لم يبدّد إصراره على البراءة، بل جعله أكثر تشبثاً بالدفاع عن نفسه. يرى أن ملف التمويل الليبي هشّ، وأن الحكم الذي صدر بحقه كان قاسياً، وأنه واثق من أن العدالة ستصحّح المسار في مرحلة الاستئناف.
وفي جانب آخر من الكتاب، يَظهر إدراك واضح بأن محنته لم تكن معزولة عن سياق سياسي وقضائي أكبر. يهاجم النظام القضائي الفرنسي بنبرة حادة، ويصف تجربته داخل السجن بأنها جزء من «عملية تهدف لإضعافه سياسياً وتشويه تاريخه». ويشير إلى أن الحكم الصادر بحقه في قضية التمويل الليبي كان في رأيه «قاسياً وغير قائم على أدلة دامغة»، عادّاً أن بعض القضاة أصبحوا، في نظره، طرفاً لا يقف على الحياد، بل جزءاً من صراع سياسي يتجاوز حدود الملفات القضائية. ويذهب أبعد من ذلك، حين يلمّح إلى أن خصومه السياسيين كانوا ينتظرون سقوطه بفارغ الصبر، وأن بعضهم ساهم في خلق مناخ ضاغط دفع القضاء إلى التشدد في التعامل معه.
خرج ساركوزي من السجن رجلاً تغيّر كثيراً. كان يقول إنه شعر بأن الهواء خارج الجدران مختلف، وأن شيئاً في داخله قد انكسر، لكن شيئاً آخر أقوى قد تولّد من رحم المحنة. ولهذا بدا مشهد توقيع الكتاب اليوم في باريس أشبه بالعودة الرمزية إلى الحياة العامة، عودة يختلط فيها الألم بالفخر، والصدمة بالرغبة في النهوض مجدداً. لقد كانت الوجوه التي احتشدت أمامه، والعيون التي تابعت كلماته وهو يكتب الإهداءات، دليلاً على أن الرجل الذي عاش واحداً وعشرين يوماً في العالم الرمادي، يعود اليوم إلى الضوء ومعه روايته الخاصة، رواية قد تغيّر موقعه، وقد تغيّر معه مستقبل اليمين الفرنسي نفسه.
تم ادراج الخبر والعهده على المصدر، الرجاء الكتابة الينا لاي توضبح - برجاء اخبارنا بريديا عن خروقات لحقوق النشر للغير





