الأحد 28 ديسمبر 2025 05:29 مساءً د. ياسر محجوب الحسين
في عالم يصك صرير قلقه الآذان بشأن سلامة أنماط الغذاء الحديثة، خاصة تلك المرتبطة بالتعديل الوراثي والاستخدام المكثف للأسمدة والمبيدات الكيماوية، يبرز الغذاء الطبيعي كخط دفاع أول عن صحة الإنسان. لم يعد الغذاء مجرد مسألة ذوق أو وفرة، بل أصبح قضية صحة عامة واقتصاد في آن واحد. وتتفاقم الإشكالات الغذائية الحادة التي يعاني منها العالم، حيث تشير تقارير برنامج الغذاء العالمي إلى أن أكثر من 318 مليون شخص يواجهون مستويات أزمة غذائية حادة أو أسوأ في عام 2026، وهو أكثر من ضعف الرقم المسجل في 2019. هذا يسلط الضوء على أزمة غذائية عالمية تتطلب استجابة عاجلة.
في هذا السياق، يظهر مفهوم «اقتصاد الغذاء الوقائي»، الذي يركز على إنتاج وتطوير وتصدير سلع غذائية ثبت علمياً أنها تقلل من مخاطر الأمراض المزمنة، وتساهم في خفض كلفة العلاج، وتحسين جودة الحياة. إن التحول نحو الغذاء الطبيعي لا يعكس فقط رغبة في تحسين الصحة الفردية، بل هو استجابة ضرورية لمواجهة التحديات الغذائية العالمية. فالأمن الغذائي لم يعد مجرد هدف، بل أصبح ضرورة ملحة لضمان حياة كريمة وصحية للجميع.
والسودان يمتلك ميزة نسبية نادرة في هذا المجال، نابعة من اتساع أراضيه، وتنوع بيئاته، واعتماد جزء كبير من إنتاجه الزراعي على أساليب تقليدية أقل تلوثاً بالكيماويات. وتأتي في مقدمة هذه السلع الفول السوداني، والسمسم، والصمغ العربي، إلى جانب محاصيل أخرى لا تقل أهمية مثل الذرة الرفيعة والكركدي. هذه الأغذية بدأ العالم ينظر إليها اليوم كأدوات حماية صحية، لا مجرد مواد غذائية. رغم ذلك، يواجه السودان تحديات كبيرة، نتيجة التمرد الذي قامت به مليشيا الدعم السريع على الدولة مما أدى إلى انخفاض الصادرات الإجمالية إلى 1.35 مليار دولار في النصف الأول من 2025، مقارنة بمستويات أعلى سابقاً، مع انهيار حاد في القطاع الزراعي. ومع ذلك، يمكن معالجة هذه العقبات من خلال شراكات دولية مع منظمات مثل منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، وإنشاء برامج لتعزيز الاستدامة والسلام الزراعي.
ويتميز الفول السوداني، الذي ينتمي إلى البقوليات رغم تصنيفه خطأً ضمن المكسرات، بقيمة غذائية عالية. أثبتت الدراسات أنه لا يرفع مستوى السكر في الدم بسرعة، مما يجعله مناسباً للوقاية من السكري من النوع الثاني، كما يحسن صحة القلب ويخفض الكوليسترول الضار بفضل غناه بالألياف والبروتين النباتي والمعادن، بالإضافة إلى مركبات مضادة للأكسدة تحمي الأوعية الدموية والدماغ. أما الصمغ العربي، الذي ينتج السودان نحو 80% من إمداده العالمي، فقد أثبتت البحوث الطبية أنه يدعم صحة الجهاز الهضمي، يقوي المناعة، وينظم مستوى السكر والدهون في الدم، مما يجعله مادة قيمة في الصناعات الغذائية والدوائية.
أما السمسم، فهو محصول زيتي عريق، غني بدهون صحية تحمي القلب والشرايين، مع معادن مهمة للعظام والمناعة، ويزداد الطلب على زيته الطبيعي لاستقراره وجودته. لا تقل أهمية الذرة الرفيعة، المناسبة لمن يعانون من حساسية القمح وغنية بمركبات مضادة للأكسدة، أو الكركدي الذي يخفض ضغط الدم ويدعم صحة الكبد.
إن القيمة الحقيقية لهذه السلع لا تكمن في إنتاجها فحسب، بل في إدماجها ضمن رؤية اقتصادية شاملة، تنقل السودان من موقع تصدير المواد الخام إلى موقع المنتج والمصدر للغذاء الصحي عالي القيمة. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي تصنيع الصمغ العربي محلياً إلى زيادة قيمته التصديرية، مستوحى من نماذج ناجحة مثل اقتصاد الشاي الأخضر في اليابان كغذاء وقائي. يتطلب ذلك الاستثمار في التخزين والنقل، والصناعات التحويلية، والبحث العلمي، والتسويق الذكي الذي يربط اسم السودان بالصحة والاستدامة، لا بتقلبات الأسواق فقط. هذا يمكن أن يرفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تصل إلى 10 - 15% في القطاع الزراعي، مع توليد فرص عمل واسعة.
من هنا تبرز الحاجة الملحة لأن تبادر حكومة رئيس الوزراء كامل إدريس، إلى التعجيل بطرح خطط استراتيجية واضحة، مثل إنشاء صندوق استثماري للصناعات التحويلية، وشراكات مع (الفاو) لتعزيز الإنتاج المستدام، وبرامج تدريبية للمزارعين. ولعل خبرته مع المنظمات الدولية تساعده في ذلك. كما أن فتح آفاق إقليمية وعالمية جديدة، وتحفيز الاستثمار قصير المدى ومتوسطه وطويله، يمكن أن يحول هذه الميزة الطبيعية إلى مورد ثابت للنقد الأجنبي، ومصدر واسع لفرص العمل، وأداة لتعزيز الاستقرار الاجتماعي.
إن السودان لا يملك فقط أرضاً واسعة وموارد خام، بل يملك فرصة تاريخية للدخول إلى اقتصاد المستقبل، حيث تصبح الصحة جزءاً من المعادلة الاقتصادية. وفي عالم تتزايد فيه كلفة المرض، يصبح الغذاء الوقائي ثروة وطنية تستحق التخطيط، والاستثمار، والحماية. بهذا النهج، يمكن للسودان أن يحقق نمواً اقتصادياً مستداماً يعزز الصحة العالمية ويرفع من مكانته الدولية.
كاتب سوداني المملكة المتحدة
د. ياسر محجوب الحسين
تم ادراج الخبر والعهده على المصدر، الرجاء الكتابة الينا لاي توضبح - برجاء اخبارنا بريديا عن خروقات لحقوق النشر للغير
أخبار متعلقة :