اخبار العرب -كندا 24: الأربعاء 31 ديسمبر 2025 12:03 مساءً ودّعت صحيفة «الشرق الأوسط»، الأربعاء، واحداً من أبرز أعمدتها الصحافية، الأستاذ محمد الشافعي، الذي رحل عن عمر ناهز 74 عاماً، بعد مسيرة مهنية حافلة امتدت لأكثر من أربعين عاماً، قضاها باحثاً عن الخبر، وملاحقاً للتفاصيل في أكثر الملفات تعقيداً وحساسية.
كان الشافعي صحافياً متخصصاً في شؤون الجماعات الإرهابية والمتطرفة، وأحد الأسماء التي أسهمت مبكراً في بناء هذا الملف داخل الصحافة العربية، واضعاً معايير مهنية صارمة في التوثيق والتحليل والاقتراب من المصادر. التحق بصحيفة «الشرق الأوسط»، عام 1982، ليبدأ فصلاً طويلاً من العطاء المهني اتسم بالرصانة والدقة والالتزام الصارم بأخلاقيات العمل الصحافي.
وُلد محمد الشافعي في عام 1951، وفي سيرته تنوّع معرفي لافت؛ إذ تخرج في كلية الآثار - جامعة القاهرة عام 1974، حاصلاً على ليسانس الآثار الإسلامية، قبل أن يشد الرحال إلى لندن عام 1977. هناك، اتجه إلى دراسة الترجمة، فحصل على دبلوم الدراسات العليا في الترجمة من جامعة ويستمنستر، كما تلقى دورات متخصصة في الترجمة الصحافية من جامعة لندن للدراسات الشرقية في منتصف الثمانينات، وهو ما أسس لقدرته الفريدة على التعامل مع المصادر الأجنبية، والوثائق المعقدة، والنصوص ذات الحساسية الأمنية والسياسية العالية.
بدأ مشواره الصحافي في لندن في مطلع الثمانينات، متنقلاً بين عدد من الصحف العربية الصادرة في الخارج، منها صحيفة «المسلمون»، التابعة للشركة السعودية، عام 1986، قبل توقفها، ثم صحيفة «العرب» الدولية في لندن، لفترة قصيرة، ليعود بعدها إلى الشركة السعودية عبر صحيفة «الظهيرة»، التي تأسست إبان غزو العراق للكويت، في مرحلة سياسية شديدة الاضطراب، شكّلت وعيه المبكر بطبيعة الصراعات الإقليمية وتشابكاتها.
ومع انتقاله إلى صحيفة «الشرق الأوسط» رسمياً في عام 1991، دخل الشافعي من بوابة قسم الرياضة، حيث أمضى قرابة خمسة عشر عاماً، أظهر خلالها مهنية عالية وقدرة لافتة على المتابعة والتحليل، قبل أن ينتقل إلى محطته الأبرز حين تولى ملف الإرهاب، ليصبح واحداً من رواده في الصحافة العربية، معتمداً على التوثيق الدقيق، والتحليل العميق، والابتعاد عن الإثارة، في تناول قضايا شائكة تتقاطع فيها السياسة بالأمن والفكر.
وفي هذا السياق، أنجز محمد الشافعي واحدة من أهم التجارب الصحافية العربية في هذا المجال؛ إذ أجرى حوارات مباشرة مع كبار قادة تنظيم «القاعدة»، كان من أبرزهم الملا محمد عمر، إلى جانب عدد من قادة حركة «طالبان»، وسافر إلى أفغانستان للقاء هؤلاء القادة في ظروف بالغة الصعوبة والخطورة. وقد شكّلت تلك الحوارات، بما احتوته من معلومات وشهادات نادرة، مرجعاً أساسياً للباحثين والصحافيين والمهتمين بملف التنظيمات الجهادية، وأسهمت في تقديم فهم أعمق لبنية هذه الجماعات وأفكارها ومساراتها.
وخلال الحرب على تنظيم «القاعدة»، قام الشافعي بالعديد من الزيارات الميدانية للقواعد الأميركية في أفغانستان، ورافق القوات الدولية في مناطق الاشتباك، وأجرى تحقيقات صحافية مباشرة من أرض المعركة، نقل من خلالها صورة دقيقة عن تطورات المواجهة، وطبيعة العمليات، وتعقيدات المشهد الأمني، ما أضفى على تغطيته بعداً ميدانياً نادراً في الصحافة العربية آنذاك.
كما أجرى الشافعي حوارات عديدة مع أبناء أسامة بن لادن، قدّم من خلالها مادة صحافية توثيقية مهمة، كشفت عن جوانب إنسانية وتنظيمية قلّما تناولتها الصحافة، وأكدت حضوره المهني القادر على الوصول إلى المصادر المغلقة، دون أن يفقد توازنه الصحافي أو موضوعيته.
وفي امتداد لهذا المسار التوثيقي النادر، كان محمد الشافعي من الصحافيين العرب القلائل الذين أجروا مقابلات داخل سجن «غوانتانامو»، حيث يُحتجز عدد من المعتقلين من عناصر تنظيم «القاعدة». وقد شكّلت هذه المقابلات إضافة نوعية واستثنائية لملف الإرهاب، لما تضمنته من شهادات مباشرة من داخل التجربة التنظيمية، وأسهمت في تفكيك الخطاب الآيديولوجي للتنظيم، وكشفت عن آليات الاستقطاب والبنية الداخلية له، وكان لها أثر كبير في إثراء المحتوى الصحافي والتحليلي العربي حول هذه الظاهرة.
وشارك الراحل في تأليف كتاب «رجال القاعدة في إيران... الملاذ الآمن والتحالف المشبوه»، الذي يُعد من الأعمال المرجعية المهمة في هذا المجال، مجسداً خلاصة سنوات طويلة من البحث والمتابعة الدقيقة.
وتبرز أهمية هذا الكتاب بوصفه أحد أوائل الأعمال العربية التي قدّمت قراءة توثيقية معمّقة لطبيعة العلاقة بين إيران وتنظيم «القاعدة»، كاشفاً عن أنها لم تكن علاقة طارئة، بل ممتدة الجذور، وقائمة على التكيّف وتبادل المصالح رغم التناقضات المعلنة.
واعتمد الكتاب على تحقيقات خاصة ووثائق نادرة، في مقدمتها «وثائق أبوت آباد»، التي أظهرت إصرار قيادة التنظيم، وعلى رأسهم أسامة بن لادن، على تحييد إيران واستثنائها من عمليات «القاعدة»، مقابل توفير ملاذات آمنة ومسارات عبور ودعم غير مباشر. كما ربط بين هذه المعطيات وأحكام القضاء الأميركي التي حمّلت طهران مسؤولية دعم عناصر متورطة في هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، ما جعل الكتاب مرجعاً مهماً لفهم تداخل الإرهاب مع سياسات الدول في واحدة من أكثر قضايا الأمن العالمي تعقيداً.
وعلى المستوى الشخصي، تزوّج محمد الشافعي بعد وصوله إلى لندن نهاية السبعينات من سيدة تركية الأصل، ورُزق منها بولد وبنت. وقد سار الابن، وهو محمود الشافعي، على خطى والده بالعمل الصحافي من بوابة الترجمة؛ إذ عمل في قسم الترجمة بصحيفة «الشرق الأوسط» لفترة تقارب 3 سنوات.وحتى قبل ساعات قليلة من رحيله، ظل الشافعي وفيًّا لمهنته، إذ كتب عددًا من الموضوعات الصحافية وأرسلها إلى موقع صحيفة «الشرق الأوسط»، وتواصل هاتفيًا مع عدد من زملائه، متابعًا الشأن التحريري كما اعتاد طوال مسيرته، وبعدها سلم روحه الكريمة إلى بارئها.
برحيل محمد الشافعي، تخسر الصحافة العربية صحافياً هادئاً، مثابراً، عُرف بين زملائه بالانضباط والتواضع، وبالعمل بصمت خلف الخبر، دون ضجيج أو ادعاء. وتبقى سيرته المهنية شاهداً على جيل آمَن بالصحافة رسالةً ومسؤولية، وترك أثره في المهنة بالكلمة الدقيقة والمعرفة العميقة.
رحم الله محمد الشافعي، وألهم أسرته وزملاءه ومحبيه الصبر والسلوان.
تم ادراج الخبر والعهده على المصدر، الرجاء الكتابة الينا لاي توضبح - برجاء اخبارنا بريديا عن خروقات لحقوق النشر للغير
أخبار متعلقة :